0 أحمد بخيت..حقيقة الفن وأوهام الديمقراطية بقلم محمود صالح

للمصريين تعبيرات عامية متداولة تتحول إلى أمثال، وغالبًا ما يستعيض المصري عن المعرفة الحقيقية باللجوء العاطفي في كل الأزمات والمحن إلى مثل شهير يُلقى بكل ثقة وكأنه هو خلاصة أي قضية ومنتهى الحكمة في أي معضلة.. وهذه هي الطريقة التي تذهب بأي شعب في العالم إلى مجاهل التخلف الشامل.. والمصريون طيبون جدًّا.. ثم إن غالبيتهم العظمى ضحايا نظام تعليمي وإعلامي يكرس تمامًا لكراهية المعرفة، وربما أصلاً كراهية الحياة.. لكن ماذا يفعل شخص مثلي وهو يجد هذه الآفة وهذا الوباء ينتقل إلى نخبة بأكملها تستعيض عن التفكير والمعرفة والخيال والجهد الشاق العنيف من أجل تحريك ما هو جامد، وبعث ما هو ميت بالحديث ليل نهار عن "الديمقراطية"! أنا أعرف هذه الديمقراطية.. قرأت عنها كثيرًا في كتب النظرية السياسية وشاهدت مئات البرامج الحوارية يتحدث فيها الضيوف عنها، وقيل لي إن مصر ما قبل ثورة يوليو كانت تتمتع بها وعندما خطفت عقلي إلى الثلاثينات والأربعينات في قراءات مطولة صرخت على عكس أرشميدس "فقدتها"، فقد كانت صور قبلات مفكري الديمقراطية على يد "المليك المعظم" أبلغ دليل على الفصام المتواصل بين القول والفعل. وعندما عدت كان الصراخ بها يتواصل ويتصاعد خاصة ممن لا يطيقون سماع أي كلمة تعارض قناعاتهم وممن يديرون مؤسساتهم الداعية للديمقراطية بأكبر قدر ممكن من الفاشية. هل الديمقراطية ليست هي الحل؟ من المؤكد ذلك، فلا يمكن الحديث عن أي نظام سياسي في العالم في ظل وجود شعب من الأصل تعاني روحه من كل هذا الجفاف ويعاني عقله من كل هذا الفراغ وتعاني منظومة القيم فيه من كل هذا الاضطراب. ما هو الحل إذن أو ما هي المشكلة التي دفعت لمثل هذا الحديث؟ الحقيقة أنه لا توجد أي مشكلة أكبر من أن معظم المقالات والكتب والندوات تصب كلها في هذا المجرى الآسن الذي لا حياه فيه.. كيف نطلب الديمقراطية في بلد لا يعرف معظم قياداته وجماهيره ومعارضيه شيئًا عن تاريخ هذا البلد.. كيف تطلب حلاًّ إنسانيًّا من شعب أصبح يصف الإنسان القوي بأن "قلبه ميت"؟ كيف نطالب بالتغيير وسط أناس أعظم حكمة لديهم هي "ربنا يطلعنا منها على خير"؟ ماذا تتوقع من شعب يسمي جهاز الشرطة "الحكومة"؟ مع هذه الظروف لا بد- وقبل أي كلام عن الديمقراطية - من التفكير فيما هو أهم وأجدى وأنفع.. لا بد من العودة إلى أصل المشكلة والداء.. لا بد من ثقافة جديدة تبعث الحياة. لا بد من الشعر والفن والعودة لمنابع إلهام شعب أصبح مغتربًا وغريبًا وتائهًا.. لا بد من قراءة ما كتبه المؤرخ المصري الفذ محمد شفيق غربال عن "القلة الخالقة" التي تعيد بناء روح مصر كلما انطمرت وضاعت واعتراها الذبول.. من هنا لا بد لي أن أتحدث عن أحمد بخيت الشاعر المصري الفذ الذي التقيته منذ أيام فوجدته يستعد لإصدار ديوان جديد اسمه "قمر جنوبي".
من هو أحمد بخيت؟ يمكنك أن تجد الإجابة المبدئية بالبحث على الإنترنت ستجد له آلاف المعجبين بشعره وفنه خاصة في العالم العربي.. يمكنك أيضًا أن تسأل عشاق الشعر في القاهرة ممن لا يزالون يحتفظون بقواهم العقلية والروحية سليمة بعد سنوات طويلة من التغريب وبزوغ ظاهرة الشعراء الذين لا يكتبون شعرًا وممن أفلتوا قليلاً من ثقافة الفضائيات وهراءات الصحف وضجيج المجال العام في مصر الذي أصبح لا يحرك همه ولا يستثير خيالاً. حينما التقيت أحمد بخيت وجدت من جديد أن مصر لا تزال ممكنة.. وكانت المفاجأة أن الحديث استمر ساعات طويلة دون أن يتحدث أي منا عن الديمقراطية! تحدثنا عن بليغ حمدي والمتنبي وهجونا (هو بالشعر وأنا بالنثر) الواقع المتردي.. جددنا كراهية إسرائيل في قلوبنا وبحثنا كثيرًا عن جمال مكنون في هذا الشعب.. أغنية عذبة لأم كلثوم وقلت له إن في الغناء شادية هي الحل.. قصيدة منه لأمل دنقل وحزن مني على اللغة مذكرًا إياه بأبي تمام "يا عذارى الكلام صرتن من بعدي/ سبايا تبعن في الأعراب" لكنني شددت على أن اللغة والشعر يتمثلان في عصرنا هذا في شعره العظيم.. خجل بشدة مع أنه هو الذي كتب عنه صلاح فضل "إن أحمد بخيت هو متنبي الشعر الحديث". كان يتحدث بحماس هائل عن مشروعه القادم بإنشاء دار نشر كبرى تليق بمصر اختار لها اسم "الكليم".. تبادلنا الأفكار واستقر هو على ضرورة أن تضم الدار من ضمن أنشطتها "مركزًا" متخصصًا في دراسة الشأن الأمريكي، وكانت المحصلة ورقه عمل أرسلها للعديد من الشخصيات الثقافية وفوجئنا قبل أيام بصحفي في الشروق يتحدث عن ضرورة إنشاء مركز متخصص في دراسة الشأن الأميركي باعتبارها من بنات أفكاره العظمى! كان أحمد بخيت مثلما عرفته بالضبط قبل 10 سنوات متوهجًا بالفن والأحلام، وقد صدمني بشدة وهو يقرأ من ديوانه الجديد "في شارع الدنيا/ انكسرت غمامة/ سمراء/ تبتز العذاب لعله/ عتباك يا وجع الخيال/ براءتي/ ظنت مراهقة السؤال.. أدلة".. كيف لهذا الإعلام القابع في غيبوبته ألا يحتفل ويحتفي بشاعر يكتب "زمن زجاجي/ إذا أمسكته بيدي تكسر/ في أتفه الأشياء/ حتى أعمق الأفكار نخسر/ الشاي ينقصه الحليب/ وربما يحتاج سكر/ النبل يخجل/ والشجاعة تستحي/ والكذب يسخر"!

مؤسس المدونة
ماهر سيف مدون مصرى,عضو بحركة كفاية, مهموم بالشأن العام وقضية العدالة والحرية عبر العالم

0 التعليقات:

إرسال تعليق

رجاء تجنب استعمال التعليقات خارج سياق النص